Commentary

لماذا لم تندلع حرب شاملة في غزّة

Smoke rises following an Israeli air strike in Gaza May 5, 2019. REUTERS/Mohammed Salem - RC18154DCF90
Editor's note:

يقول دانيال بايمان إنّ للفلسطينيين والإسرائيليين على حدّ سواء أسباباً تدفعهم لعدم تصعيد صراعهم الأخير، غير أنّ الضغوط المحلّية قد تؤدّي إلى خروج الوضع عن السيطرة. نُشرت هذه المقالة بدايةً في صحيفة “ذا واشنطن بوست”، وهذه ترجمة للنسخة الأصلية.

أنهى وقفُ إطلاق نار يوم الاثنين إحدى أسوأ جولات القتال بين إسرائيل وحركة حماس منذ العام 2014. فقد مات أربعة إسرائيليين وأكثر من 20 فلسطينياً في مدّة يومَين من الصراع تليا تظاهرةً عنيفة على طول الحدود التي تفصل بين إسرائيل وقطاع غزّة وإطلاقَ رصاص على جنديَّين إسرائيليَّين. وأطلقت مجموعات مقاتلة فلسطينية قرابة 700 صاروخ على إسرائيل، هبط معظمها من دون إحداث أيّ ضرر، غير أنّ عدداً منها أصاب منازل أو غيرها من الأهداف في إسرائيل.

وقصفت إسرائيل مئات الأهداف في غزّة، فأصابت منشآت تابعة لحركتَي حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين وقتلت قائداً عسكرياً ادّعت أنّ له روابط مع إيران، مستأنفة بذلك أسلوب القتل المستهدف الذي كانت قد أوقفته لفترة. وكالعادة، يحتدم الجدال حول المسؤولية حيال سقوط قتلى مدنيين، لكن بين القتلى الفلسطينيين امرأتان حامل وطفلان رضيعان.

ولا تعكس الجولة الأخيرة من القتال بين إسرائيل وحركة حماس الاحتمالَ الدائم باندلاع صراع في غزّة فحسب، بل تشير أيضاً، على عكس ما قد يتوقّعه المرء، إلى سبب عدم انفجار الوضع المحتدم في القطاع وتحوّله إلى حرب شاملة. إذ دعا بعض المواطنين الإسرائيليين هذا الأسبوع رئيسَ الوزراء بنيامين نتانياهو إلى تصعيد القتال، ويرحّب بعض المقاتلين الفلسطينيين بصدام أوسع. غير أنّ للطرفَين أسباباً تردعهما عن اتّخاذ هذه الخطوة. فقادة حماس يدركون ضعفهم العسكري والسياسي والدبلوماسي، فلن تحقّق حرباً أطول الكثير وستترك غزّة بحالة أسوأ ممّا هي عليه الآن. أمّا من ناحية إسرائيل، فهي تدرك أنّ نظاماً متطرّفاً ضعيفاً في غزّة أفضل من انهيار النظام في القطاع أو بروز مجموعة أكثر تشدّداً فيه. فكما أشار المحلّل الأمني الإسرائيلي غابي سيبوني قائلاً: “إذا دمّرت إسرائيل نظامَ حماس، ماذا يأتي بعد ذلك؟ كلّ بديل هو حلّ فظيع”.

لذا، تلجأ إسرائيل إلى ما يكفي من القوّة لإبقاء حركة حماس ضعيفة ولإرسال رسالة مفادها أنّه ستتمّ معاقبة عمليات إطلاق النار والهجمات الصاروخية بشدّة، غير أنّها تُحجِم عن التمادي لتفادي احتدام شامل. لكن قد تفضي السياسات الداخلية والمفاهيم الخاطئة، لدى الجهتَين، إلى قرارات يمكنها أن تتسبّب بخروج العنف عن السيطرة.

صحيحٌ أنّ القتال الأخير كان حادّاً للغاية، إلا أنّه ليس بمفاجئٍ. فقد تصادمت إسرائيل وحماس بي العامين 2008 و2009 وفي العامين 2012 و2014 وأسفر عن ذلك وفاة حوالي 100 جندي ومدني إسرائيلي وأكثر من 3 آلاف فلسطيني. وبين العامَين 2014 و2018، قصفت إسرائيل بانتظام قطاعَ غزّة من أجل إيقاف الهجمات الصاروخية ومعاقبة حماس. وقد أطلق الجيش الإسرائيلي على هذه العمليات تسمية “الحملة بين الحربَين”.

ولطالما لجأت حركة حماس إلى هجمات صاروخية أو تحمّلتها كوسيلة لجذب الانتباه الدولي إلى غزّة وإلى عجز إسرائيل المزعوم عن احترام الاتفاقيات السابقة التي قد تتيح قيام حركة اقتصادية وتنمية أكبرَين في القطاع. بالإضافة إلى ذلك، ربّما تعتقد الحركة هذه المرّة أنّ التوقيت مؤاتٍ للغاية، ولا سيّما بسبب اقتراب حلول يوم الذكرى وعيد الاستقلال في إسرائيل (يومَي الأربعاء والخميس) ولأنّه في غضون أسبوع ستستضيف تل أبيب مسابقة الأغنية الأوروبية (Eurovision)، وهو وقتٌ تُعتبر فيه إسرائيل حسّاسةً أكثر إزاء التعطيل. وعلى نطاق أوسع، قد تلجأ حماس إلى توجيه رسالة إلى العالم، بما فيه إدارة ترامب، بأنّه لا يمكن عقد اتفاقية سلام من دون موافقة حماس الضمنية.

وتَحكم حماس غزّة بطريقة غير فعّالة، ممّا يعيق قدرتها على تبوّؤ قيادة القضية الفلسطينية. ويُحكِم كلّ من إسرائيل ومصر السيطرة على حدود غزّة، وتستخدم السلطة الفلسطينية، منافسُ حماس الأوّل في الضفة الغربية، روابطها مع إسرائيل والمجتمع الدولي للسيطرة على تدفّق المال إلى غزّة (وتقويض حماس). بالتالي، يشكّل البؤس والركود الناجمان عن ذلك في غزّة أحدَ الأسباب التي تجعل حماس مستعدّة للمخاطرة بخوض صراع، وذلك لكي تُظهر للمقاتلين أنّها تقف في وجه إسرائيل ولكي يعلم الغزّاويون أنّها لن تقبل بسهولة بوضعٍ راهن كئيب.

غير أنّ غياب صراع شامل شبيه بالعام 2014 يشير إلى أنّ الطرفَين متردّدان في التصعيد. إذ تنشر صواريخ حماس الرعبَ وتُسقط بعض القتلى لكنّها لا تشكّل استراتيجيةً عسكرية رابحة، وقد سارعت الحركة إلى الدعوة إلى وقف إطلاق للنار. في المقابل، أنهى ردّ الفعل الإسرائيلي العسكري القاسي لكن المدروس القصف الصاروخي من دون إسقاط الحكومة في غزّة، وبالكاد أدّى هذا التصرّف إلى بروز انتقاد دولي (أقلّه هذه المرّة).

بالإضافة إلى خيارات حماس العسكرية الضعيفة، الحركة معزولة من الناحية الدبلوماسية. إذ تبيّن أنّ القائد المصري عبد الفتاح السيسي، الذي يحظى بدعم المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة على حدّ سواء، عدوٌّ قاس، إذ أغلق معبر رفح وقمع حركة الأسلحة والمقاتلين بين سيناء وغزّة. وتسبّبت الحربان في سوريا واليمن (حيث يدعم كلّ من حماس وإيران جهات متعارضة) بضغط على علاقات حماس بطهران. ومع أنّ الطرفَين توصّلا إلى تسوية عملية للأمور، باتت حماس تدرك أنّ إيران لن تقدّم المساعدة عند نشوب حرب ضدّ إسرائيل.

طبعاً، من الصعب ضمان ضبط النفس. فغالباً ما تقود إسرائيل “الحملة بين الحربَين” لإرسال رسالة إلى أعدائها الإقليميين الآخرين. إذ يخشى القادة الإسرائيليون أنّ أيّ ضعف في وجه هجمات حماس سيشجّع حزب الله في لبنان وإيران في سوريا. لكن يجدر بإسرائيل أن تحذر من الدفع بحماس قريباً جدّاً من الحافّة.

ومن المفارقة أنّ لحماس وإسرائيل على حدّ سواء الجوابَ نفسه على مشاكل غزّة، ألا وهو السلطة الفلسطينية. فمن وجهة نظر إسرائيل، إذا سيطرت السلطة الفلسطينية على غزّة، قد تشكّل هذه المجموعة بديلاً مسالماً لحماس وقناةً مقبولة للمساعدات الدولية. أما من ناحية حماس، فهي تتوق إلى تسليم الفوضى المحتدمة التي هي غزّة إلى السلطة الفلسطينية. غير أنّ حماس لن تسلّم أسلحتها، كما تطلب إسرائيل والولايات المتحدة، خوفاً من أن تخسر صفة “المقاوِمة” ولأنّها تشكّ في أنّ السلطة الفلسطينية ستعتقل أعضاء حركة حماس وتعذّبهم (كما فعلت في الماضي). فلا تريد السلطة الفلسطينية أن تقف حماس على قدمَيها من جديد وهي تدرك أنّ محاولة إحلال الازدهار في غزّة اقتراحٌ خاسر.

ومن غير الممكن التنبّؤ بالسياسات الداخلية لدى الطرفَين. فقد ادّعى رئيس هيئة الأركان الإسرائيلي السابق بيني غانتس، الذي أوشك على الإطاحة بنتانياهو في الانتخابات الأخيرة، أنّ وقف إطلاق النار “استسلامٌ آخر لابتزاز حماس والمنظّمات الإرهابية”. أمّا سياسة حماس فهي أقلّ شفافية، غير أنّه من المحتمل أن يسعى المتشدّدون إلى مقاربة صدامية أكثر في حال استمرّت الحركة بالتعثّر. بالإضافة إلى ذلك، يواجه قادة حماس منافسة من منظّمات أكثر تمرّداً مثل حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين والمتشدّدين الذين يشبهون تنظيم الدولة الإسلامية والذين يرفضون كلّ تسوية.

والمصدر الأكبر لقوّة حماس هو الضعف السياسي للسلطة الفلسطينية، التي تتضاءل مصداقيتها أكثر فأكثر مع تحوّل محادثات السلام إلى أمل يصعب تحقيقه. وقد تستفيد إسرائيل كثيراً على المدى البعيد من اقتراحات جدّية حول المستوطنات والسعي إلى اتفاقية سلام أوسع. غير أنّ ذلك لن يحصل من دون تحفيزٍ من واشنطن أو تغيّر في رأي السكان الإسرائيليين وقادتهم، وهما أمران من المستبعد أن يحدث أيٌّ منهما.

في الوقت الحالي، لعلّ الصراع المحدود والمتفرّق النتيجة الفضلى التي يمكن الأمل بتحقيقها.

Author