لملخص التنفيذي
ينبغي أن تتبع الولايات المتحدة نهجاً جديداً تجاه لبنان إذا كانت ترغب في تأمين مصالحها في ذلك البلد وفي الشرق الأوسط على النطاق الكبير. لقد كان الهجوم الذي وقع عام 1983 ضد قوات المارينز الأمريكية في لبنان هو بداية النهاية لتدخل الولايات المتحدة في شؤون لبنان. فمنذ ذلك الحين، وباستثناء فترة وجيزة أثناء إدارة جورج و. بوش، كان هناك شعور قوي في واشنطن أن ثمن تدخل الولايات المتحدة مرتفع جداً، وأن المشكلات في لبنان لا تهدد المصالح الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط. حتى عندما كان آتون مشكلات لبنان يزداد اضطراباً في مناسبات عديدة، وظهرت خطورة تورط أجزاء أخرى من المنطقة في الصراع، فقد ظلت الولايات المتحدة تفترض أنها يمكنها معالجة هذه المشكلات بوسائل زهيدة التكلفة. وعندما تدخلت الولايات المتحدة بالفعل خلال فترة إدارة جورج و. بوش، كان تدخلها غير متناسق ومفتقداً للغاية ولم يكن يستند إلى خطة طويلة الأجل، مما أفضى – ليس فقط – إلى تقويض الاستقرار في لبنان، بل وتقويض مصالح الولايات المتحدة نفسها في المنطقة.
وينبغي أن يتضمن جوهر الاستراتيجية الجديدة الفعالة للولايات المتحدة تجاه لبنان فهماً واضحاً من جانب واشنطن للأمور التي على المحك وما هي متطلبات تحقيق النجاح. لقد أخفقت الولايات المتحدة في لبنان خلال السنوات السابقة لأنها أخطأت في تشخيص مصالحها الخاصة هناك، وأساءت فهم تداعيات مشكلات لبنان بالنسبة إلى سياسات الولايات المتحدة.
هناك ثلاثة أسباب رئيسية تجعل واشنطن تعطي مزيداً من الاهتمام والانتباه إلى لبنان ومساعدته على معالجة مشكلاته في نفس الوقت الذي ترعى فيه أصولها هناك: أولاً، استقلال لبنان وسيادته يدعمان مصالح الولايات المتحدة الجيوسياسية في الشرق الأوسط عن طريق حرمان خصوم الولايات المتحدة – إيران وسوريا – من إمكانية استغلال لبنان لتحسين أوضاعهما الاستراتيجية في المنطقة على حساب الولايات المتحدة وحلفائها. ثانياً، عندما يتحقق للبنان الأمن والقوة على المستوى الداخلي ويصبح قادراً على حل مشكلاته أو تخفيف حدتها، فإن ذلك يعزز المصالح الأمنية الأمريكية في الشرق الأوسط، وكذلك مصالح حليفتها – إسرائيل. ثالثاً، أن الولايات المتحدة لها مصلحة استراتيجية في دعم البلدان الديمقراطية وتعزيز المؤسسات الديمقراطية في جميع أنحاء العالم. أضف إلى ذلك حقيقة أن لبنان دولة ديمقراطية (حتى لو كانت ناقصة) ذات دوافع ليبرالية وتلعب دوراً ثقافياً فكرياً مهماً في المنطقة، ولكنها محاطة بجيران صريحي العداء لها، هذه الحقيقة ينبغي أن تكون ضمن قائمة الاهتمامات الأمريكية.
إن تجارب الولايات المتحدة ونكساتها السابقة في لبنان تقدم عدداً من الدروس المفيدة التي ينبغي أن يُسترشَد بها في صياغة استراتيجية أمريكية جديدة حيال لبنان، ومن هذه الدروس:
يجب على الولايات المتحدة تحقيق التوازن الصحيح بين الاحتياجات الفورية والمصالح بعيدة المدى.
يجب على واشنطن اتخاذ إجراء دبلوماسي ملموس لمنع إسرائيل من استخدام القوة المفرطة ضد لبنان في أوقات المواجهة العسكرية مع حزب الله، وذلك لأن العمليات العقابية واسعة النطاق من جانب إسرائيل ضد لبنان تؤدي إلى نتائج عكسية، وتقوض المصالح الأمريكية في لبنان.
• ينبغي ألا تتدخل الولايات المتحدة عسكرياً لدعم معسكر لبناني على آخر. فالقيام بذلك من شأنه أن يعمق الاستقطاب السياسي في لبنان، ويؤدي إلى تفاقم الانقسامات الطائفية القائمة، ويعرض نهج الولايات المتحدة بأكمله للخطر.
• ينبغي على الولايات المتحدة عدم استخدام لبنان كساحة قتال ضد الخصوم الإقليميين، أو كورقة مساومة في الدبلوماسية الإقليمية. فمن شأن ذلك أن يُفاقم من زعزعة الاستقرار في لبنان.
ينبغي على واشنطن تنفيذ سياسة تستوعب حزب الله. ويمكن القول إنه لن تنجح أي سياسة للولايات المتحدة في لبنان دون وجود استراتيجية فعالة لاحتواء حزب الله، باعتباره الكيان السياسي والعسكري الأوحد والأقوى في تلك الدولة.
ونظراً لأن لبنان يعاني من مشكلات داخلية – مثل السلطة المركزية الضعيفة – فضلاً عن المشكلات الخارجية – مثل التدخل المفرط في شؤونها الداخلية من جانب قوى خارجية – فإن أي سياسة أمريكية جديدة حيال لبنان يجب أن تحتوي على عنصر محلي وعنصر إقليمي. أما العنصر المحلي في السياسة الجديدة للولايات المتحدة تجاه لبنان، فيجب أن يقوم على دعم ومساندة لبنان في بناء قوته واستقرارها الداخليين فبالرغم من أن الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) قد قدمت بالفعل مساهمات قوية لتعزيز قدرات الدولة اللبنانية، يجب على واشنطن التركيز على الاستثمار في بناء جهاز عسكري وأمني وطني لبناني قوي وحديث. والواقع أنه ليس هناك قطاع في دولة لبنان أشد احتياجاً إلى الاهتمام العاجل من واشنطن من قطاع القوات المسلحة اللبنانية. فالجيش اللبناني الحالي غير قادر على تحمل مسؤولية الدفاع عن الدولة ضد التهديدات الرئيسية الداخلية والخارجية، نظراً لضآلة ميزانيته وضعف التدريب وسوء التجهيز لقوته القتالية. لذلك، ولأن الأمن في لبنان يعاني من نقص الإمدادات، فإن جميع المحاولات الرامية إلى الإصلاح وبناء الدولة ستواجه صعوبات وستظل ناقصة ما لم يتحقق الأمن.
وأما العنصر الإقليمي في السياسة الجديدة للولايات المتحدة تجاه لبنان فيجب أن يعمل على معالجة مشكلة التدخل الخارجي. فرغم أن حزب الله يُعتبر نتاجاً لضعف لبنان على المستوى الداخلي (لم تستطع الدولة اللبنانية عبر تاريخها معالجة الاحتياجات السياسية والأمنية والاجتماعية والاقتصادية للشيعة اللبنانيين)، فهو أيضاً نتاج للتدخلات إيران وسوريا في السياسة الداخلية للبنان. وفي واقع الأمر، فإن لبنان كان سيكون قادراً على الحد من التدخل الخارجي في شؤونه بشكل أكثر فعالية لولا علاقات حزب الله مع دمشق، ومع طهران على وجه الخصوص. ولذلك، ينبغي أن يتمثل هدف واشنطن في اتخاذ التدابير الدبلوماسية التي تساعد على تحويل حزب الله إلى قوة فاعلة محلية محضة وإنهاء تدخلها النشط في الصراع العربي الإسرائيلي.
ومن ناحية أخرى، ينبغي النظر إلى “الحل السوري” للمشكلة المتمثلة في “حزب الله” (أن تطلب من سوريا السيطرة على حزب الله) على أنه لا يحمل أي فرص للنجاح لأن سجله كئيب وتسعيرته باهظة. إن إخفاق دمشق لم يقتصر على فشلها في احتواء حزب الله أثناء الوجود العسكري السوري في لبنان (1990-2005) فحسب، وإنما أضر أيضاً بالديمقراطية اللبنانية بسبب فرض قبضتها الصارمة على السياسة اللبنانية. بل ينبغي أن تكون واشنطن أكثر رفضاً للحل السوري اليوم، لأن الرئيس بشار الأسد صرح مراراً وتكراراً أنه من مصلحة بلاده أن تتبع السياسات التي تسعى إلى دعم – مقابل إضعاف – حزب الله.
كما يجب على الولايات المتحدة التخلي عن الأساليب العسكرية لنزع مخالب حزب الله. إن حرب إسرائيل عام 2006 توضح (مثل العمليات العسكرية السابقة لها في لبنان) أن أي استراتيجية تستهدف تدمير حزب الله عسكرياً – فضلاً عن شن حرب شاملة ضد لبنان ككل، وهو ما قد يؤدي إلى إشعال فتيل الصراع الإقليمي – ستفشل وتأتي بنتائج عكسية على الأرجح. وبنفس القدر من الأهمية، فإن استخدام أي أسلوب عسكري أمريكي أو إسرائيلي لمواجهة تحدي حزب الله، سيقوض بشكل كبير مصالح أخرى للولايات المتحدة وإسرائيل في لبنان من خلال إضعاف البلد، وربما يسبب المزيد من الانهيار والتفكك السياسي.
إن إيران وحدها – التي أنفقت كثيراً على حزب الله وقامت برعايته – في وضع يمكنها من بسط سيطرتها على الحزب. ولذلك ، فإن الولايات المتحدة لديها فرصة جيدة لاحتواء وترويض حزب الله عن طريق الدخول في محادثات مباشرة مع إيران. بيد أنه يجب على واشنطن أن تدرك أن إيران لن تقبل أبدا مطالب لنزع سلاح حزب الله (على أي حال، الشعب اللبناني فقط هو الذي يمكنه نزع سلاح حزب الله). وأقصى ما يمكن أن تفعله هو مطالبتها بالتوقف عن دورها الإقليمي واعتماد موقف أكثر اعتدلاً تجاه إسرائيل وعملية السلام العربية الإسرائيلية.
ورغم أنه من الصحيح أن التوصل إلى تفاهم أمريكي إيراني يتضمن اتفاقاً بشأن حزب الله لن يلغي النفوذ السوري في لبنان (وربما لا شيء آخر يفعل ذلك)، فإن هذا التفاهم يمكن أن يحد من النفوذ السوري بشكل كبير. والسبب الرئيسي الذي جعل حزب الله يدافع عن المصالح السورية في لبنان على مدى السنوات الماضية هو أن سوريا ترسل أسلحة إلى الحزب وتسهل شحنات الأسلحة التي تأتي من إيران، مما يُمكِّن حزب الله من القيام بدور إقليمي فعال، بدلاً من أن يكون مجرد كيان محلي. ومع ذلك، إذا أمرت إيران حزب الله بإنهاء دوره الإقليمي والكفاح المسلح ضد إسرائيل، فإن الحزب لن يكون بحاجة لتلقي أسلحة من سوريا ولن يشعر بأنها ملزم بالدفاع عن المصالح السورية في لبنان. وبدلاً من ذلك، فإنه سيركز على مصالحه المحلية، وأجندته الإسلامية، ودوره في السياسة اللبنانية.
ولكن، تلك الاستراتيجية التي ستحد من النفوذ السوري في لبنان لن تتعرض للقضية الفلسطينية في لبنان. إن التسوية السلمية بين الإسرائيليين والفلسطينيين والتي تعالج بنجاح مستقبل اللاجئين الفلسطينيين في لبنان (وفي المناطق الأخرى) هي الحل الوحيد لمشكلة اللاجئين في لبنان.
وحتى يتسنى للولايات المتحدة حماية مصالحها في لبنان، فإن عليها الانفصال عن سياساتها الماضية والنظر إلى لبنان من منظور مختلف تماماً.
لا شك أن تنفيذ استراتيجية أمريكية جديدة في لبنان سيكون مهمة صعبة، لاسيما في ظل التعقيدات الكثيرة داخل وخارج لبنان، لكنه تحدٍ جدير بالسعي من أجله. إن الفرصة ما زالت سانحة لتطبيق نهج أمريكي أكثر نزاهة وتناسقاً في لبنان، نهج يفيد لبنان ويعزز المصالح والمُثل الأمريكية، ولكن طبول الحرب الأخيرة في المنطقة تقف كتذكرة قوية بأن الفرصة قد لا تظل سانحة لفترة طويلة.