منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا موقعٌ ملفت لبحوث العدالة الانتقالية، فهي تطرح سيناريوهات ومطالب كلاسيكية للعدالة الانتقالية لكنّها في الوقت عينه تتحدّى بعضاً من الأسس التي يُبنى عليها هذا المجال. مع ذلك، الصراعُ وعدمُ الاستقرار السياسي المستمرّان يجعلان الوصول إلى هذه المنطقة صعباً على الباحثين الأكاديميين من بلدان الشمال. بالتالي، السؤال المطروح هو كيف نجري بحوثاً حول منطقة الاتصال المباشر معها والتجارب فيها محدودان؟ لقد كنت مهتمّاً بالعدالة الانتقالية في الشرق الأوسط لسنوات وسنوات، وواجهت مشكلة مع مسألة كيفية فهْم مطالب العدالة الانتقالية بحقّ من دون انخراط عميق في المنطقة ومع شعبها. لذا كان من دواعي سروري وشرف لي أن أتلقّى دعوة للمشاركة في ورشة عمل مركز بروكنجز الدوحة بعنوان “الإبداع في العدالة الانتقالية: تجارب من المنطقة العربية”، في قطر في مارس 2020.
لقد عملت لسنوات كثيرة مع نساء من منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا حول موضوع العدالة الانتقالية. وتطلّب هذا العمل مساعدتَهنّ على التفكير في طريقة استخدام اللغة المشتركة الدولية للدفاع عن مطالب العدالة الانتقالية الخاصّة بهنّ بالقانون والسياسات. انطلاقاً من هذه التفاعلات بات لديّ فهمٌ معقول لبعض الصعوبات التي تنشأ عند استخدام الأدوات المتاحة في “مجموعة أدوات” العدالة الانتقالية لمعالجة التحدّيات الخاصة بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وتُبيِّن النقاشات حول آليات العدالة الانتقالية في نهاية المطاف إحباطاً حول حدود هذه الآليات وعدم قدرتها على إبراز مطالب المجتمعات المتأثّرة. لذا فيما كنت أتحضّر لرحلتي إلى الدوحة للمشاركة في ورشة العمل، اطّلعت على بعض المعلومات الخلفية حول التطوّرات الإقليمية في العدالة الانتقالية وتأمّلت في ما ظننت بأنّها تحدّيات، لكن الأهمّ أنّني حضّرت نفسي للاستماع. فحضّرت نفسي لأن أطرح جانباً تصوّراتي المسبقة حول الموضوع وللاستماع لأولئك الأكثر تأثّراً بالصراعات في المنطقة والذين كانوا في الطليعة في طرح استجابات ترتكز على العدالة الانتقالية.
وكانت توقّعاتي لورشة العمل هذه عالية ولم تخب آمالي. فقد جلستُ واستمعتُ وتعلّمتُ. لكنّني واجهتُ تجربةُ لم أكن جاهزة لها، ألا وهي أنّني شعرت بعدم ارتياح كبير أحياناً لوجودي في الصالة. وفي بعض النواحي، كان تفسير ذلك بسيطاً. فعدد المشاركين من خارج المنطقة الذين لا ينطقون العربية قليلٌ. ومع ذلك، عندما تكلّمنا أو شاركنا في النقاش تحدّث كلّ الحاضرين حصراً بالإنكليزية. وكانت الترجمة الفورية من اللغة الإنكليزية إلى العربية متاحةً لتسهيل التواصل لكن نتيجة لذلك مرّت هذه الحوارات عبر طبقات من الترجمة، وفي هذه العملية خطرٌ دائم من خسارة بعض التفاصيل والفوارق الدقيقة أو تغيّرها.
وبطرقٍ أخرى كان الشعور بعدم الارتياح أعمق. فبأيّ حقّ أشارك في هذا النقاش؟ كيف خوّلتني مكانتي كأكاديمية من مؤسّسةٍ نخبةٍ شماليةٍ الوصول إلى نقاش حول منطقة لم أعشْ فيها أيّ تجربة؟ فأنا مُنظّرة عن العدالة الانتقالية. ولست مرتاحة لفكرة “الخبرة” التي تعطي شرعية للباحثين الأجانب أكبر منها لأولئك الذين يتحلّون بفهم متأصّل للصراع وتحدّيات تعريف العدالة. في بعض النواحي شعرت بأنّني غريبة تشارك في حديث شخصيّ للغاية. بالتالي، رحت أفكّر في سبب وجودي هناك، وواجهني بوضوح أكبر موقعي وسْط هذه التراتبية الإشكالية بين “الباحث” في بلدان الشمال و”موضوع البحث” في بلدان الجنوب. لقد كان مكاناً غير مريح لي.
من هذه العملية التأمّلية، برز عدد من الأسئلة في داخلي حول البحوث في هذا المجال.
أوّلاً، يبرز في الخطاب الشمالي افتراضٌ بوجود عملية انتقالية، وبالتالي، وجود نظام سياسي مهتمّ (بدور فعّال حتّى) في الوصول إلى العدالة. ولا تقول النماذج الحالية الكثير عن طريقة “إنجاز” العدالة الانتقالية في سياق تكون فيه الدولة ومؤسّساتها معادية علناً لمطالبَ من هذا النوع. ففي السياق الشمالي، يتمّ تحمّل مطالب العدالة بالإجمال، حتّى عندما لا تنخرط الدول بشكل مجدٍ في الحوار أو لا تُنشئ مؤسّسات وآليات. وباستطاعة الباحثين والمناصرين التحدّث بحرّية. وهذا ليس امتياز يمكن الاستخفاف به. فللكثيرين في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تتضمّن مناصرة العدالة الاجتماعية خطراً جسدياً حقيقياً. بالتالي، استراتيجيات التعامل مختلفة حكماً. وللذين يستخفّون بالأمن الجسدي بيننا، هذه ناحية من نواحي مناصرة العدالة الانتقالية التي ينبغي علينا التنبّه لها ومعرفة المزيد عنها.
ثانياً، تتمّ طريقة قراءة الخبراء في بلدان الشمال وفهمهم للأحداث التي تخلق الحاجة إلى العدالة الانتقالية من خلال عدسة المفاهيم والتجارب الشمالية لماهيّة العدالة وكيفية تحقيقها. ويظهر ذلك من الانتقادات التي طالت التدخّلات الدولية في مصر وتونس، إذ اعتبرتها سياسات بشأن العدالة الانتقالية مصمّمةً بناء على افتراضات شمالية حول ما هو المطلوب وليس بناء على المطالب المحلّية. وفي ورشة العمل، كان من الملفت الاستماع إلى الحوار بين المشاركين حول مدى تناسُب آليات العدالة الانتقالية المدعومة دولياً مع السياق. وبيّنت هذه الحواراتُ الطريقةَ التي تعتمد فيها السياساتُ بشأن العدالة الانتقالية على إمكانيةِ مفاهيم متشاطرة عن العدالة غير متاحة دائماً. لا شكّ في وجود بعض المجالات من التجربة والتحديات المتشاطرة التي قد تكون فيها التبصّرات عن واحدة من الحالات نافعةً لحالة أخرى. بيد أنّ هذا التبادل مُهيكلٌ حالياً بشكل تراتبي تُعطى فيه الأفضلية لـ”المعرفة” المستوردة من الخبراء على حساب الخبرة التجريبية للخبراء من المنطقة. وإذا أردنا نموذجاً عادلاً، فلا بدّ من أن يكون نموذجاً يتعاطى مع هذا التبادل بتواضع أكبر وبتقدير للتجربة والتعلّم المشتركَين لا للخبرة.
أخيراً، تبرز مسألة اللغة. المعاهدات الشمالية هي التي تحدّد حالياً نطاق إشكاليات البحوث التي يمكن طرحها واللغة التي ينبغي نشر الرسائل بها. وعلى غرار تجربتي في ورشة العمل، تتمّ هذه الدينامية على مستويَين علني وضمني. فالشرط الضمني بأنّه ينبغي على بلدان الجنوب مخاطبتنا بلغة نفهمها للوصول إلى مجالات النفوذ يولّد عائقاً قوياً أمام نشر أعمال الناشطين/الباحثين المحلّيين دولياً. ويؤدّي هذا بدوره إلى اتّكال على شراكات غير متساوية لسرد القصص ويقوّي الأصوات التي تقع خارج المنطقة. لكنّ المشكلة تتخطّى مجرّد مسألة التحدّث أو النشر بالإنكليزية. ففي عملية الترجمة، تسقط التفاصيل والفروقات الدقيقة. ويمكن أن يرتبط ذلك باللغة أو بتقنيات التواصل المختلفة التي يعتمدها الباحثون والناشطون أو بعنصر “الترجمة” الثقافية التي بسببها يغيّر مَن هم من خارج المنطقة الرسائل لتتناسب مع المستمع. مثلاً، غالباً ما يُفهم من مصطلح “العدالة” في الخطاب الدولي على أنّه يضمّ عناصر من المصالحة. ومع ذلك، لم يتشاطر المشاركون من سوريا هذا الفهم ذاته للمصطلح. بالتالي، ينبغي أن تنقل ترجمة العدالة معنى الكلمة بدقّة أكبر لمَن يتلقّاها، ولا ينبغي تعديلها لتناسب شكلاً يعرفه مَن في الشمال. ومشكلة المصطلحات المشتركة التي تتّسم بتفسيرات مختلفة ليست بمشكلة يسهل تخطّيها، لكن ينبغي الإقرار بها.
وتحدّد تراتبيات المعرفة الطريقة التي يتمّ فيها تأطير مطالب العدالة. فللوصول إلى الدعم والتمويل الدوليين، ينبغي تصميم البحوث وعمليات المناصرة لتتناسب مع مجموعة محدَّدة من التوقّعات حيال شكل العدالة الانتقالية ووظيفتها. فهذ الأمر يسمح للمموّلين والمدقّقين الدوليين بإدراكها. ولا تقبل هذه العملية بطرق بديلة للتعريف بالمشكلة ولا تفسح في المجال أمام تطوير طرق جديدة لمعالجتها. وتبرز هذه الدينامية بوضوح في التمييز بين الباحث والناشط الذي يرتكز عليه الكثير من شروط التمويل. ففيما قد يبرز فصلٌ واضح بين الباحث والناشط في الشمال، لا يسري هذا التمييز في معظم المناطق الأخرى.
بحسب خبرتي، الشروط التي تفرض على الباحثين من بلدان الجنوب الامتثال إلى الأنماط والأساليب ذاتها التي تعتمدها بلدان الشمال هي إقصائية بشكل متأصّل وتحول دون التعاون المجدي والمتساوي. في سياق العدالة الانتقالية، فيما يخضع جوهر هذا المجال لحراسة شديدة من حاجبيه الدوليين، إمكانية الإبداع في العالم العربي ضئيلةٌ، شأنها شأن قدرة المنطقة على رسم معالم خطاب العدالة الانتقالية بحدّ ذاته بشكل مجدٍ. ويتمّ تقييم نجاح العدالة الانتقالية أو إخفاقها بناء على معايير قائمة، عوضاً عن ابتكار وجهات جديدة لتقييم معنى العدالة وقيمتها للمجتمعات المتأثّرة.
Commentary
Op-edالصورة من الخارج: آراء عن تعاون الشمال والجنوب حول السياسات والبحوث المتعلّقة بالعدالة الانتقالية
الثلاثاء، 24 نوفمبر 2020